قرية “Tunuslar” التونسية بتركيا
السفر والتنقل من دولة لأخرى، أو من مدينة ساحلية إلى أخرى جبلية، لا يعني السياحة بهدف البحث عن أجواء دافئة صيفا، أو ثلجية شتاء، فلا بد للسائح أن يبحث عن تاريخ المدينة التي يزورها وعادات وتقاليد سكانها لتزداد ثقافته ومعرفته، فهناك مدن وقرى ومتاحف تحكي تاريخا مضى وقصصا لأفراد صنعوا بطولات، وآخرين تنقلوا من موقعهم الأصلي لمواقع أخرى خارج دولهم الأصلية فاستقروا وعاشوا حياتهم بها.
وكلما سنحت لي فرصة بزيارة الجمهورية التركية أحرص على تنقيب تاريخها القديم لأقف أمامه، وأستقرئ ما به من أحداث اجتماعية وأدبية قبل أن تكون سياسية أو عسكرية، وفي إحدى رحلاتي الأخيرة لتركيا التقيت بأحد المتخصصين في مجال التاريخ، وكان محور الحديث يدور حول العلاقات العربية ــ التركية في الماضي، والدور الذي لعبه العرب في حياة الأتراك وجاء الحديث حول العلاقات التونسية ـ التركية، وتمحور حول قرية “تونس” بتركيا، والتي يطلق عليها الأتراك Tunuslar، أي قرية التوانسة، والتي توجد في شمال وسط تركيا في المنطقة الواقعة على سواحل البحر الأسود.
وتبعد عن مركز الولاية مسافة 59 كلم.
ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 1150م.
فسكان هذه القرية الحاليون هم أحفاد مجموعة من التوانسة الذين شاركوا في حرب القرم، وهي حرب اندلعت بين روسيا والسلطنة العثمانية بتاريخ 28 مارس عام 1853م، واستمرت حتى 1856م.
ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854م التي كان قد أصابها الضعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد (1861م) مملكة إيطاليا.
والسبب الرئيس في إشعالها هي الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية، وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرحا للمعارك والمواجهات.
وانتهت الحرب في 30 مارس 1856م بتوقيع اتفاقية باريس، وهزيمة الروس هزيمة فادحة.
وقد شاركت تونس في هذه الحرب حيث أرسل أحمد بأي جيشا قوامه 20 ألف جندي تحت إمرة {الجنرال رشيد}، وكان الهدف الأساسي لأحمد بأي من المشاركة في هذه الحرب هو استعراض جيشه الجديد أمام المحتل الفرنسي وإظهار قدراته على الردع وأن تونس تمتلك جيشا عصريا قادرا على الدفاع عنها في حال تمادت الأطماع الفرنسية وأرادت احتلال تونس.
واستشهد عدد من الجنود التوانسة، ورجع عدد آخر منهم إلى تونس، فيما فضل آخرون البقاء في تركيا فمنحهم السلطان العثماني قطعة أرض في ولاية قسطموني ليسكنوا فيها، فسميت القرية باسمهم، وما زالت إلى اليوم تسمى بهذا الاسم.
وبقى التوانسة القاطنون بالقرية محافظين على عاداتهم وتقاليدهم التونسية في المأكل والملبس، وورثوها لأبنائهم، وانتقلت لأحفادهم، وفي عام 2003م أنشئ سبيل أطلق عليه “الصداقة التونسية التركية”، وحضر حفل إطلاق السبيل عدد من التوانسة والأتراك.
وما زال العلم التونسي يرفرف إلى اليوم في قمة الجبل، كما لا تزال مقبرة الجنود التوانسه موجودة في وسط القرية وقائدهم الكولونال (محمد التونسي)، وهناك عدد من التوانسة يحرصون على زيارة هذه القرية كل عام، مؤكدين أن من توفي من الجنود له أقارب بتونس ومن بقي على قيد الحياة وتزوج وأنجب، فإن أبناءه وأحفاده هم تونسيون لا يمكن نسيانهم.
